في الأيام الماضية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي عدة محاولات عربية وغير عربية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في توليد مقاطع صوتية “أغاني” لفنانين رحلوا عن عالمنا، أو لمقاطع فيديو لشخصيات تتحدث بكلام لم تنطق به فعليًا في مواقف لم تتواجد فيها، وذلك في محاولة لعرض ما يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعي وحدود ما يمكن أن يطلق عليه الإبداع الرقمي وتطبيقاته في مجالات عديدة. في المقابل واجه ذلك موجة انتقادات وصل بعضها حد التهديد بإحالة هذه المحاولات للقضاء للتعدي على رموز ثقافية وربما لعدم اتفاق جودة مخرجات العمل مع قيمة ورمزية الفنان الذي تم محاكاة أو تقليد أو توليد صوته بالذكاء الاصطناعي، مما دفع الكثير من المفكرين والقانونيين إلى الدعوة لعقد ورش عمل لوضع محددات ومناقشة ضرورة تشريع قوانين منظمة للإبداع الرقمي وكذلك استخدام الذكاء الاصطناعي فيه، لما قد تحمله تلك المحاولات ما يذهب لأبعد من ذلك لحد وصفه بتشويه تاريخ الفن وأعلامه.
ولمزيد من الفهم للإبداع الرقمي يمكن تعريفه بأنه استخدام التطبيقات الرقمية والوسائط المتعددة لإنتاج وتجسيد الأفكار والمفاهيم الإبداعية، ويشير الإبداع الرقمي إلى القدرة على إنشاء وتحرير ومشاركة المحتوى الرقمي بطرق جديدة ومبتكرة تقوم بتوظيف المستحدثات التكنولوجية في إنتاج العديد من الوسائط بداية من السيناريو النصي مرورًا بتصميم المشاهد والمؤثرات الصوتية والبصرية وانتهاء بإنتاج الفيديو كما لو كان ذلك بمشاركة فريق عمل كامل، لذلك يعمل الإبداع الرقمي في العديد من المجالات على تصميم الجرافيك، والتصوير الفوتوغرافي وتصميم وإنتاج الفيديو، والرسوم المتحركة، وتصميم الويب وتطوير التطبيقات، والألعاب الإلكترونية، والفنون الرقمية الأخرى، كما يتضمن أيضًا الأدوات المساعدة على الكتابة الإبداعية، وغيرها، ويتيح الإبداع الرقمي للأفراد التعبير عن أنفسهم بطرق جديدة وإيصال رسائلهم بشكل مبتكر وجذاب، كما يوفر فرصًا للتفاعل والتعاون والتواصل بين الأشخاص في مجتمع رقمي متنوع في طرق ووسائل الاتصال والعرض لما يتم إنتاجه، ويعزز الإبداع الرقمي بذلك تطور الفن والثقافة والتكنولوجيا في آن واحد، كما يتيح للمبدعين استكشاف وتوسيع حدود الإبداع وابتكار، بل وتجسيد أفكارهم الجديدة وحلولهم الفريدة للتحديات المختلفة بسرعة وسهولة عن ذي قبل.
إلا أنه على الرغم من فوائده، هناك بعض المخاطر المحتملة المرتبطة بالإبداع الرقمي. فيما يلي بعض تلك المخاطر الشائعة:
1. قد تؤدي بعض الممارسات غير الرشيدة للإبداع الرقمي إلى التعدي على حقوق الملكية الفكرية لآخرين، مثل سرقة الأعمال الفنية أو البرمجيات أو الأفكار. يمكن للتكنولوجيا أن تجعل من السهل نسخ وتوزيع المحتوى الرقمي بدون إذن، مما يعرض المبدعين للخسائر المالية والأذى الاقتصادي والضرر المعنوي.
2. بفضل التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل وغيرها، أصبح من السهل إنشاء ونشر المحتوى، وقد يؤدي ذلك إلى انتشار المعلومات الخاطئة أو المضللة. يمكن أن يؤثر هذا على ما يمكن أن يطلق عليه اختراق الرأي العام ويسبب تبعات سلبية على المستوى الاجتماعي والسياسي، بل وتغيير القناعات والثوابت.
3. يمكن أن تؤدي الممارسات غير الرشيدة للإبداع الرقمي إلى انتهاك الخصوصية الشخصية؛ فمن الممكن أن يتم جمع واستخدام البيانات الشخصية دون موافقة صريحة من أصحابها. قد يؤدي ذلك إلى التعرض للاستغلال أو الاختراق الإلكتروني للأجهزة والحسابات.
4. قد يتضمن الإبداع الرقمي استخدام التكنولوجيا والوسائط الرقمية بشكل مكثف ومفرط، وهذا يزيد من مخاطر إدمان التطبيقات والألعاب وزيادة الاعتمادية على تلك الوسائل، وقد يؤدي الانغماس الشديد في العالم الرقمي إلى الانعزال الاجتماعي وانخفاض الإنتاجية وقد يتعدى الأمر ذلك إلى تأثيرات سلبية على الصحة العقلية والعاطفية.
5. قد يفتح الإبداع الرقمي الطريق للتهديدات الأمنية، مثل الاختراقات الإلكترونية وزرع البرامج الضارة في الأجهزة والشبكات وتطبيقاتها. قد يتعرض المحتوى الرقمي نفسه، والمعلومات الشخصية للسرقة أو التلاعب بطرق مختلفة، مما يعرض المبدعين والمستخدمين لمخاطر كبيرة.
لذلك من المهم أن يكون لدينا وعي حول هذه المخاطر وأن نتخذ إجراءات جادة للحد منها على المستويات الفردية والمؤسسية، مثل حماية حقوق الملكية الفكرية، والتحقق من مصادر المعلومات قبل نشرها، واتخاذ التدابير الأمنية المناسبة لحماية البيانات الشخصية والاستخدام المسؤول للتكنولوجيا الرقمية وأدواتها القائمة على الذكاء الاصطناعي بكافة أنواعه؛ هذا ما أوجد العديد من المحاولات التشريعية العالمية لتنظيم الإبداع الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي، وتختلف هذه المحاولات من بلد إلى آخر منها:
1. حماية حقوق الملكية الفكرية: حيث يتم وضع قوانين ومعاهدات لحماية حقوق الملكية الفكرية في العالم الرقمي. على سبيل المثال، قوانين حقوق النشر وبراءات الاختراع والتي تسعى لحماية المحتوى الرقمي والابتكارات التكنولوجية وغير التكنولوجية.
2. التشريعات الخاصة بالبيانات الشخصية: يتم وضع قوانين لحماية البيانات الشخصية وتنظيم جمعها وإعادة استخدامها، أو تمريرها لطرف ثالث. مثل العديد من الدول التي اتخذت تشريعات حول حماية البيانات الشخصية، وكذا الإجراءات التي تتعلق بالموافقة والإخطار بشفافية الاستخدام المشروع للبيانات من الأفراد والكيانات.
3. التشريعات المتعلقة بالأمن السيبراني: تقوم الحكومات بإصدار تشريعات لتعزيز الأمان السيبراني وحماية الأنظمة الرقمية والشبكات من الهجمات الإلكترونية والاختراقات، ويتم وضع متطلبات أمنية ومعايير للشركات والمؤسسات لحماية بياناتهم وتقنياتهم.
4. تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي: أقدمت بعض الدول مؤخرًا على وضع تشريعات لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، وضمان سلامته، ورسم ممارساته وأخلاقياته. قد تتضمن هذه التشريعات متطلبات التصريح بالاستخدام والشفافية والمساءلة فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيا المبنية على الذكاء الاصطناعي وحدود حرية ذلك الاستخدام بما لا يضر بالآخر.
إلا أن هذه المحاولات التشريعية والتي تختلف من بلد إلى آخر، وفقًا للتحديات والمتطلبات المحلية والعالمية، لا يجب أن تتحول لشكل من أشكال إعلان الحرب على الإبداع الرقمي والذكاء الاصطناعي؛ فحماية الإبداع الرقمي وعدم محاربته أو منعه له أهمية كبيرة، وذلك للعديد من الأسباب منها:
1. تشجيع الابتكار والإبداع: حماية الإبداع الرقمي يشجع المبدعين والمبتكرين على مواصلة العمل والابتكار في مجالاتهم. عندما يكون هناك نظام فعال لحماية حقوق الملكية الفكرية، يشعر المبدعون بالثقة في حماية أعمالهم ويتحفزون لتطوير المزيد وتقديم أفكار جديدة ومبتكرة.
2. دعم الاقتصاد الرقمي: الإبداع الرقمي يلعب دورًا هامًا في تعزيز الاقتصاد الرقمي وتحقيق النمو الاقتصادي، وحماية حقوق الملكية الفكرية تعزز البيئة التجارية وتشجع على الاستثمار في الابتكار وتطوير التكنولوجيا الرقمية، مما يعزز التنافسية ويدفع بالاقتصاد نحو التطور والتقدم.
3. حماية المصدر التعليمي والثقافي: يسهم الإبداع الرقمي في إثراء المحتوى التعليمي والثقافي، وحماية حقوق الملكية الفكرية تحافظ على توافر هذا المحتوى وتمنع التلاعب به أو استغلاله بشكل غير قانوني، وبالتالي يتمكن الأفراد والمجتمعات من الاستفادة من هذا المحتوى في التعلم والنمو.
4. الحفاظ على الإبداع والتنوع الثقافي: حماية الإبداع الرقمي تسهم في الحفاظ على التنوع الثقافي والفني، وذلك من خلال حماية حقوق الملكية الفكرية التي تشجيع المبدعين من جميع الثقافات والخلفيات على التعبير عن أنفسهم وتطوير أعمالهم الفريدة، ما يؤدي إلى تنوع وإثراء المحتوى الرقمي والإبداعي الذي يتاح لجمهور المستخدمين.
وبشكل عام، تعزز حماية الإبداع الرقمي الابتكار والاقتصاد، وتعمل على الحفاظ على المصادر التعليمية والتنوع الثقافي، ما يعد أمرًا حيويًا يعزز التنمية والتقدم كما يعتبر مصدر من مصادر الدخل في عصر أصبحت فيه الأفكار أصول ربما أكثر تحقيقًا للدخل على المستوى القومي، والربح على المستوى الشخصي، ولا تتطلب تلك التنمية مواد خام سوى الفكر والإبداع والابتكار، إلا أن تحقيق التوازن بين المنفعة والمفسدة يحتاج لتضافر جهود علماء المجال، صانعي القرار، ومتخذيه، للحفاظ على شعرة معاوية في حرية الإبداع الرقمي التي يجب أن تفرض أبسط حدودها عدم الإضرار بالآخر.
الأستاذ الدكتور حسين عبد الفتاح، أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك، جامعة قناة السويس، مصر.